تُعتبر صناعة الساعات السويسرية واحدة من أبرز الصناعات التي تجمع بين التقاليد العريقة والابتكار المستمر. على الرغم من التحديات التي واجهتها الصناعة على مر العصور، إلا أن الساعات السويسرية حافظت على سمعتها المرموقة في العالم بفضل حرفيتها العالية ودقتها الفائقة.
البدايات
تعود جذور صناعة الساعات السويسرية إلى القرن السادس عشر عندما بدأت سويسرا في تصنيع ساعات من خلال استيراد المحركات الميكانيكية من دول أخرى مثل ألمانيا. ومع مرور الوقت، بدأت الشركات السويسرية في إتقان فن صناعة الساعات الميكانيكية الخاصة بها.
كانت صناعة الساعات السويسرية مركزة في جبال جورا على طول الحدود الفرنسية. . يُنسب الفضل لدانيال جان ريتشارد في تأسيس هذه الصناعة باستخدام تقنيات الإنتاج من جنيف، حيث كان ينظم العمل بين المتعاقدين ويستخدم سمعته التجارية. قرب صناع الساعات من بعضهم ساعدهم في التخصص والابتكار بسهولة.
في عام 1530، كان هناك سجل لوجود أول ساعة سويسرية في مدينة جنيف والتي كانت في البداية تُصنع يدويًا باستخدام تقنيات بدائية، لكن الحرفية السويسرية بدأت في التميز عن غيرها من الصناعات في ذلك الوقت.
كانت ساعات هذه الفترة تُعتبر قطع فنية وليست مجرد أدوات لقياس الوقت مما ساعد سويسرا على بناء سمعة عالمية في صناعة الساعات. في القرن السابع عشر، أصبحت جنيف مركز عالمي لتصنيع الساعات، وبدأت الشركات السويسرية مثل فاشيرون كونستانتين وباتيك فيليب في تشكيل أسس النجاح لهذه الصناعة.
القرن التاسع عشر: النمو والابتكار
في القرن التاسع عشر شهدت صناعة الساعات السويسرية طفرة هائلة. تم تقديم العديد من الابتكارات التي أسهمت في تطوير الساعات وجعلها أكثر دقة وتعقيدًا. من أبرز هذه الابتكارات كان التوربيون، وهو جهاز ميكانيكي تم تصميمه في البداية لتحسين دقة الساعات الميكانيكية من خلال تقليل تأثير الجاذبية على حركة التروس. كان هذا الابتكار يمثل قمة الحرفية الميكانيكية، حيث كان يتم تجميعه يدويًا ويُعتبر أحد أكثر الأنظمة المعقدة في صناعة الساعات.
كما شهد هذا العصر تحسينات كبيرة في تقنيات تصنيع الحركات المعقدة مثل تقنيات المحرك التلقائي ومحركات الأعمدة. تميزت الساعات السويسرية في هذا العصر باستخدام مواد مثل الذهب والفضة فأصبحت أكثر جذبًا للطبقات الثرية في المجتمع الأوروبي. في هذه الفترة، بدأ ظهور العديد من العلامات التجارية التي لا تزال اليوم تهيمن على سوق الساعات مثل رولكس و أوميغا وجيجر لوكولتر.
بينما كانت الصناعة السويسرية تبدأ في التحول نحو التصنيع الصناعي، كانت دول أخرى مثل الولايات المتحدة تتبع نفس الاتجاه. حيث قامت أمريكا ببناء بنية تحتية قوية في ولاية إلينوي وبنسلفانيا في مجال صناعة الساعات، مدفوعة بالطفرة التي أحدثتها السكك الحديدية. لكن تسببت سلسلة من التحديات الاقتصادية مثل الكساد الكبير في إضعاف الصناعة الأمريكية
أزمة الساعات السويسرية: عصر الكوارتز
في السبعينات من القرن العشرين دخلت صناعة الساعات السويسرية في أزمة غير مسبوقة بسبب اختراع محرك الكوارتز.
أحدثت هذه التقنية ثورة في صناعة الساعات فهي تقوم على استخدام بلورات الكوارتز المتذبذبة لتوليد الوقت بدقة أعلى. كانت الساعات التي تستخدم حركة الكوارتز أقل تكلفة وأكثر دقة من الساعات الميكانيكية التقليدية مما جعل العديد من الشركات السويسرية تواجه تهديد حقيقي في سوق الساعات.
في تلك الفترة لم تُبدِ العديد من الشركات السويسرية استعداد للتعامل مع هذه التقنية الجديدة، ومن مستوى عالٍ في فترة ما بعد الحرب بلغ 85%، انخفضت حصة السوق السويسرية إلى 15% في عام 1980 نتيجة لهذه المنافسة الجديدة لصالح الشركات اليابانية مثل سيكو وكاسيو، اللتان أضافتا الساعات الرخيصة والدقيقة إلى السوق مما أثر بشكل كبير على الشركات السويسرية التقليدية.
قدمت شركة سيكو مجموعة واسعة من الساعات التي تعتمد على التنسيق التناظري التقليدي رغم أنها تعمل بمحركات كوارتز الإلكترونية. وفي عام 1977باعت سيكو تقريباً 2 مليون ساعة في الولايات المتحدة من خلال حملة إعلانات ضخمة بلغت قيمتها 10 ملايين دولار معظمها على التلفزيون.
قبل دخولها السوق الأمريكية بشكل رسمي في عام 1970، بدأت سيكو في بناء صورتها لدى الجنود الأمريكيين الذين كانوا يخدمون في آسيا أثناء حرب فيتنام. و قام هؤلاء الجنود بشراء الساعات الرخيصة والموثوقة من سيكو في متاجر PX العسكرية، ليعودوا فيما بعد كسفراء للعلامة التجارية. من خلال تركيزها على سوق الساعات متوسطة السعر (من 65 إلى 350 دولارًا أمريكيًا)، حققت سيكو نموًا سنويًا متوسطًا بنسبة 16% بين عامي 1968 و1978، وسجلت مبيعات عالمية تجاوزت مليار دولار أمريكي.

تم تأسيس مركز الإلكترونيات الساعاتية (CEH) في نيونشاتيل بعد الفشل المحرج لتقنية الشوكة الرنانة، بهدف تطوير آلية أكثر دقة للحفاظ على الوقت. لكن بحلول عام 1967 كانت الكرونوميترات الكوارتز التي طوروها أكثر دقة مرتين من أفضل الساعات الميكانيكية المنتجة حتى ذلك الحين، وكان أداءها يتحسن بسرعة. الساعات الميكانيكية كانت تعتمد على تقنيات قديمة تعود لقرون مضت، حيث كانت تقيس مرور الوقت عبر إطلاق الطاقة من زنبرك ملفوف يتم تمريرها عبر سلسلة من التروس ويتم تنظيمها بواسطة آلية تسمى التهريب.
الثورة السويسرية في صناعة الساعات
لمواجهة هذه الأزمة، كانت صناعة الساعات السويسرية بحاجة إلى الاستجابة لتحديات السوق. قامت شركات مثل رولكس بتطوير محرك كوارتز خاص بها أُطلق عليه اسم أويستر كواتز، كانت تجمع بين الحرفية السويسرية العالية وتقنيات الكوارتز الحديثة، ولكنها لم تكن تجذب الجماهير كما كان يُتوقع لها.
استمر السويسريون في هيمنتهم على سوق الساعات من قبل شركات مثل جيجر لوكولتر وأوديمار بيغيه وقامت بتتغيير استراتيجياتها، بما في ذلك اعتمادها على ساعات كوارتز وتحديث تسويقها. كما ارتبطت الساعات بالفن وجمع الساعات من خلال المزادات والإصدارات الخاصة
على صعيد الإنتاج، تغيرت عملية تصميم الساعات الميكانيكية بشكل جذري. ورغم استمرار التجميع اليدوي، إلا أن التكنولوجيا الحديثة جلبت ابتكارات ميكانيكية جديدة أدت إلى تحسينات غير مسبوقة في تعقيد وحجم الحركات الميكانيكية، مما زاد من الاهتمام بالساعات ورفع المبيعات
في عام 1983، تم إطلاق سواتش وهي علامة تجارية قامت بتطوير ساعات كوارتز مبتكرة بتصاميم جذابة وبأسعار معقولة. وقد كانت سواتش جزءًا من خطة نيكولاس هايك لإنقاذ الصناعة السويسرية من خلال دمج العديد من الشركات تحت مظلة مجموعة "سم إتش"، والتي أصبحت لاحقًا "سواتش". هذا التحول جعل الساعات السويسرية أكثر نجاحًا من أي وقت مضى، حيث جمعت بين البساطة والابتكار لتلبية احتياجات السوق العالمي. هذه الاستجابة المبتكرة من قبل الصناعة السويسرية ساعدت في إعادة إحياء الاهتمام بالساعات السويسرية على المستوى العالمي.

في عام 2004، سيطرت سويسرا على أكثر من 40 في المائة من السوق العالمي من حيث القيمة، أي أكثر بنسبة 50 في المائة من هونغ كونغ منافستها الأقرب.
انضم إلى صناعة الساعات عدد من الشركات الجديدة التي قدمت مفاهيم وأفكار مبتكرة. وقد تغيرت أساليب توزيع الساعات مع مرور الوقت. تعتبر بلان با وتحديدًا مديرها التنفيذي جان-كلود بيڤر، من بين الذين ساهموا في التحوّل الكبير للصناعة. إذ رأى بيڤر في الساعة الميكانيكية فرصة للتحول إلى سلعة فاخرة ذات إنتاج محدود، مما يجعلها منتج يدوي مكلف. في إطار تسويقها، أعلنت الشركة قائلة: "منذ عام 1735، لم تصنع بلان با ساعة كوارتز. ولن تصنع واحدة أبدًا".
ومن هنا تحولت فجأة نقاط ضعف الساعات الميكانيكية (مثل عدم الدقة القديمة، التكاليف الإنتاجية المرتفعة نتيجة الاعتماد على اليدوية والإنتاج من قبل شركات سويسرية قديمة فاقدة للحيوية) إلى نقاط قوتها (مثل الحرفية العريقة والإنتاج اليدوي وفقًا لتقاليد عمرها 400 عام، ما جعلها تنتج روائع نادرة ومكلفة).
مع عودة الساعات السويسرية إلى الأضواء… بدأت الشركات السويسرية الكبرى مثل رولكس وباتيك فيليب في الجمع بين الحرفية السويسرية التقليدية ومحرك الكوارتز، حيث قدمت ساعات فاخرة ذات محركات ميكانيكية متطورة أو ساعات مزودة بمحركات كوارتز عالية الدقة. هذا التحول في الصناعة سمح للسويسريين بالتوسع في أسواق جديدة وفي مقدمتها الأسواق الآسيوية.
الساعات السويسرية في عصر التكنولوجيا
مع بداية الألفية الجديدة ومع تطور التكنولوجيا بشكل كبير دخلت الساعات السويسرية في مرحلة جديدة من التحديات والفرص، وهي الساعات الذكية. في حين أن الساعات السويسرية كانت معروفة بتقنياتها التقليدية المعقدة، فقد بدأ الكثير من الشركات السويسرية في محاولة للتكيف مع الاتجاهات الجديدة في السوق، مثل الساعات الذكية التي تقدم وظائف تكنولوجية متقدمة مثل قياس النشاط البدني ومراقبة الصحة.
أدخلت بعض الشركات السويسرية الكبرى مثل أوميغا ورولكس تقنيات جديدة في ساعاتها الذكية، حيث كانت الساعات الجديدة تجمع بين التميز السويسري في التصميم والدقة، والتكنولوجيا الحديثة التي تُسهل الحياة اليومية. كما طورت بعض الشركات مثل لوكس ساعات ذكية تتمتع بالموثوقية العالية والتصميم العصري.
الاستدامة والتحديات الجديدة
اليوم، تواجه صناعة الساعات السويسرية العديد من التحديات الجديدة، بما في ذلك الحاجة إلى تبني تقنيات أكثر استدامة.
في عصر التغير المناخي والاهتمام المتزايد بالبيئة، بدأ العديد من صناع الساعات السويسريين في استخدام المواد المستدامة مثل السيراميك المعاد تدويره والستيل. كما بدأت العديد من الشركات السويسرية في تطوير ساعات مزودة بخلايا شمسية لتقليل الحاجة إلى البطاريات، وهو ما يعكس التوجه العالمي نحو المزيد من الاستدامة.
كما أن الارتفاع الكبير في الطلب على الساعات من الأسواق الناشئة مثل الصين والهند قد دفع صناعة الساعات السويسرية إلى المزيد من الابتكار في التصاميم والوظائف لتلبية احتياجات هذه الأسواق الجديدة.
على الرغم من التحديات العديدة التي واجهتها صناعة الساعات السويسرية سواء من التنافس مع الساعات اليابانية أو مع تطور التكنولوجيا، إلا أنها استطاعت دائمًا التكيف والنمو، مما يجعلها واحدة من الصناعات الأكثر تأثيرًا في العالم.
